مع الأخصائي النفسي بديع القشاعلةألا بذكر الله تطمئن القلوب

 

النظرية المحمدية وعلم السلوك 3

بقلم الاخصائي النفسي بديع القشاعلة

نرى انه يوجد تطابق عجيب بين جميع الأبحاث في علم السلوك في هذا المجال وبين " النظرية المحمدية " إذ ان كل ما قام به العالم النفسي جان بياجية من أبحاث وتجارب كي يصل  إلى  ان  الطفل يمر بمراحل زمنية مختلفة ينمي فيها العقل والمعرفة والاستعداد للتعلم , وان الطفل يخرج من صيغة التفكير المتمركز حول الذات في سن السابعة , والتي فيها يمكنه تقبل وجهة نظر الغير . استطاع محمد صلى الله عليه وسلم ان يحدد هذا ويعلمه قبل أربعة عشر قرنا ونيف , وقد حدد محمد صلى الله عليه وسلم العمر الزمني بالتمام والدقة المتناهية في خروج الطفل من تمركزه في تفكيره  إلى  فهم قصد الآخرين , لذا يمكنه فهم ما تعني الصلاة , ويمكنه استيعابها . وصدق عز وجل حينما قال: " إن هو إلا وحي يوحى". (النجم,4).

 ويكمل محمد عليه الصلاة و السلام.. “, اضربوهم عليها إذا بلغوا عشرا " ويعود أيضا ليحدد الفترة الزمنية التي يمكن فيها الطفل تلقي العقاب وفهم معناه.

 " ..وفرقوا بينهم في المضاجع ."  هنا يدخل عليه الصلاة والسلام في الحياة العقلية والمعرفية والجنسية للطفل فيأمر بتفريق الذكر عن الأنثى في هذا الجيل. ولكي  نعلم مدى صحة هذا التحديد علينا ان نربط ما قاله عليه الصلاة والسلام وما أثبته خبراء علم النفس في عصرنا الحديث عن السلوك البشري.

 أما بالنسبة للقسم الذي حدد فيه محمد عليه الصلاة والسلام سن العاشرة للضرب والعقاب , فيقصد هنا بالضرب والعقاب" الذي يهدف  إلى  الردع وتقويم السلوك وذلك ما يطلق عليه كبار علماء النفس باسم " العقاب " ضمن نظرية واسعة في علم السلوك يطلق عليها نظرية " الثواب والعقاب". لفهم هذه المرحلة علينا التعرف على المرحلة الزمنية ما بين 9-12 سنة والتي يطلق عليها اسم : " الطفولة المتأخرة " ويطلق عليها أيضا اسم مرحلة " قبيل المراهقة".

في هذه المرحلة يصبح سلوك الطفل أكثر جدية ويميز هذه المرحلة تعلم المهارات اللازمة لشؤون الحياة وتعلم المعايير الخلقية والقيم والاستعداد لتحمل المسؤولية وضبط الانفعالات وهذا يكون إعدادا لمرحلة المراهقة . ويعتبر علماء النفس ان هذه المرحلة هي من انسب المراحل لعملية التطبيع الاجتماعي ,كما ويلاحظ أيضا نمو الضمير والرقابة الذاتية على السلوك. وفي هذه المرحلة يستمر التفكير المجرد في النمو ويستطيع ان يقوم بالتفسيرات بدرجة أفضل من قبل, ويستطيع ان يلاحظ الفروق الفردية . كما ويزداد مدى الانتباه وتزداد القدرة على التركيز وتتطور الذاكرة ويصبح بمقدوره التذكر عن طريق الفهم . ويثبت الخبراء ان الطفل بحاجة إلى تقبل السلطة لأنه يحتاج إليها, فسلوكه وتصرفاته ما زالت غير ناضجة وخبراته فجة, ولا بد ان نراعي حزمنا مع أطفالنا وان تكون معاملتنا حنونة وهي حازمة. كما وعلينا ان نراعي أيضا نقطة هامة جدا , والتي شدد عليها الخبراء في الصحة النفسية , ألا وهي عدم استخدام العقاب بمفرده كوسيلة للتعليم وإنما يجب ان  يكون هناك أيضا الثواب , وكي نفهم هذا بصورة أوضح علينا ان  نتطرق لقانون الثواب والعقاب في علم السلوك. لقد اهتم جمع كبير من علماء النفس بقضية الثواب والعقاب وكانت هناك عدة بحوث تجريبية في هذا الموضوع وكانت النتيجة كالأتي : ان الثواب أقوى وأبقى أثرا من العقاب في عملية التعلم وان المدح اقوي أثرا من الذم بوجه عام. وذلك يعني انه إذا ارتكب طفل ذنب ما, وعاقبناه ( ليس جسديا ) يجب علينا ان نثيبه عندما يقوم بجهد أو عمل طيب. أي ان العملية تداولية وليست تقتصر على العقاب أو الثواب. وقد توصل العالم النفسي الشهير ثورندايك وغيره إلى ان اثر الجزاء – ثوابا كان أم عقاب – يبلغ أقصاه حين يعقب السلوك مباشرة , ولكن أثره يضعف كلما طالت الفترة بينه وبين السلوك . ولكي يكون الجزاء مثمرا وذو نتيجة يجب ان يكون عاجلا ومباشرا , أي حينما يقوم الطفل بعمل جيد نثيبه مباشرة  لفظيا كان أم عمليا , وان  أذنب علينا ان  نعاقبه ( ليس جسديا ) مباشرة حتى يكون الجزاء مثمرا. ان العقاب المعتدل المعقول  ( ليس جسديا ) مدعاة في كثير من الأحيان إلى  اخذ الحيطة والحذر وتجنب الأخطاء . أما العقاب الجسدي القاسي والذي يجرح كبرياء الطفل أو الذي يأخذ شكل التوبيخ العلني فهو ذو نتائج سلبية ودون فائدة, بل ويزيد من الأضرار النفسية كالكراهية, والشعور بالنقص وفقدان الثقة بالنفس والخجل. كما وان العقاب الشديد يعيق العملية التعليمة بدل من المساعدة عليها.

 لذلك حينما قال محمد عليه الصلاة والسلام : " واضربوهم عليها إذا بلغوا  عشرا " , كان يقصد الضرب الخفيف أي العقاب المعتدل , وقد أمر بذلك فقط حينما يصل الطفل  إلى  سن العاشرة وليس قبل ذلك , أي لا يجوز لك ضرب طفلك (الشيء الخفيف) قبل بلوغه العاشرة , وذلك لان جميع العمليات العقلية والمعرفية تكون قد تطورت أكثر وان المبنى الجسدي أصبح أكثر تحملا .  وبما ان  هذه المرحلة العمرية والتي تسمى " قبيل المراهقة " هي مرحلة مهمة ,  إذ  ان الفترة التي تأتي بعدها هي المراهقة , والمراهقة فترة حرجة في حياة الإنسان  إذ  يقول عالم السلوك الشهير  اريكسون , ان التغيير الجوهري في مرحلة المراهقة هو الإحساس بالهوية فان تكتلت عليه المشاكل يحدث عنده ما يسمى بتشتت الدور , أي لا يعرف ماذا يريد و إلى  أين يسعى . لكن  إذا تمكن المراهق من التوفيق بين الأدوار المختلفة والمتنوعة , والقدرات والقيم , وإمكانه إدراك استمراريتها في الماضي والمستقبل فان إحساس الهوية لن يفسح المجال لظهور تشتت الدور . لذا فان محاولة أعداد الطفل وتعليمه بشيء من السلطة يعطي الطفل الإحساس بالمسؤولية وان الحياة ليست فوضى وإنما هناك ما يجب فعله وهناك ما يجب الابتعاد عنه . هذا الأمر يؤدي إلى أعداد الطفل لمرحلة المراهقة وهي المرحلة التي يبدأ فيها بالتقرب  إلى  عالم الراشدين والشعور بالمسؤولية وتوسع أبواب الحياة عليه ودخول عالم اكبر وأوسع , لذلك كان يجب عليه ان  يعلم ان  الحياة ليست كلها ثواب وإنما هناك شيء من العقاب, إن نحن تمادينا في اللامبالاة  وعدم الاكتراث . 

أما الجزء الأخير من الحديث وهو " فرقوا بينهم في المضاجع " فنابع من تطور النمو الجنسي في هذه الفترة من العمر والتي يطلق عليها اسم مرحلة ما قبل البلوغ الجنسي 9-12 سنة , وتعد تحولا من حالة الكمون الجنسي  إلى  حالة النشاط الجنسي والذي يبدأ مع مرحلة البلوغ. وبما ان هذه المرحلة هي مرحلة انتقالية وتحولية , فعلى الإباء ان يعدوا أطفالهم لاستقبال البلوغ وذلك ببعض المعلومات والتوجيهات. فعندما يصل الأطفال  إلى  سن العاشرة والحادية عشر نجد ان لديهم حب استطلاع شديد عن النواحي التشريحية الجنسية والفسيولوجية والحمل والولادة والأمراض التناسلية .  ان من الملاحظ ان ميلهم  إلى  الأمور الجنسية في هذه المرحلة يزداد ,  إذ  ان ما يميز هذه الفترة هو الميل  إلى  الأمور   الجنسية والتعرف عليها والعبث بها وهذا جعله الله تعالى ليكون تمهيدا لمرحلة البلوغ والتي يمكن ان تحدث فيها عملية الزواج. كما وان الانتباه في هذه المرحلة يزداد وتزداد دقته , الأمر الذي يساعده على إدراك الاختلاف بين الأشياء وإدراك الشبه أيضا بينها. نتيجة لهذا فانه يستطيع ان  يقدم تفسيرا بسيطا للأمور   , وهذه صورة راقية من التفكير لم نكن نلحظها في المراحل السابقة من النمو . لذا, قال محمدا عليه الصلاة والسلام :

".. وفرقوا بينهم في المضاجع" وصدق الله العظيم حينما قال: " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا " (الأحزاب,21).